الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وذلك أن قبول دعاء النبى صلى الله عليه وسلم فى مثل هذا هو من كرامة الرسول على ربه؛ ولهذا عد هذا من آياته ودلائل نبوته، فهو كشفاعته يوم القيامة فى الخلق؛ ولهذا أمر طالب الدعاء أن يقول: (فشفعه فى وشفعنى فيه) بخلاف قوله: (وشفعنى فى نفسى) فإن هذا اللفظ لم يروه أحد إلا من هذا الطريق الغريب. وقوله: (وشفعنى فيه) رواه عن شعبة رجلان جليلان: عثمان بن عمر، وروح بن عبادة. وشعبة أجل من روى هذا الحديث، ومن طريق عثمان بن عمر عن شعبة رواه الثلاثة: الترمذى والنسائى وابن ماجه . رواه الترمذى عن محمود بن غيلان عن عثمان بن عمر عن شعبة ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سيار عن عثمان بن عمر، وقد رواه أحمد فى المسند عن روح بن عبادة عن شعبة، فكان هؤلاء أحفظ للفظ الحديث. مع أن قوله: (وشفعنى فى نفسى) إن كان محفوظًا مثل ما ذكرناه، وهو أنه طلب أن يكون شفيعًا لنفسه مع دعاء النبى صلى الله عليه وسلم ولو لم يدع له النبى صلى الله عليه وسلم كان سائلا مجردًا كسائر السائلين . ولا يسمى مثل هذا شفاعة، وإنما تكون الشفاعة إذا كان هناك اثنان / يطلبان أمرا فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذى لم يشفع غيره . فهذه الزيادة فيها عدة علل: انفراد هذا بها عمن هو أكبر وأحفظ منه ،وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عرف له ـ عن روح هذا ـ أحاديث منكرة. ومثل هذا يقتضى حصول الريب والشك فى كونها ثابتة، فلا حاجة فيها؛ إذ الاعتبار بما رواه الصحابى لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذى رواه لا يدل على ما فهمه بل على خلافه. ومعلوم أن الواحد بعد موته إذا قال: اللهم فشفعه فى وشفعنى فيه ـ مع أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يدع له ـ كان هذا كلاماً باطلا، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبى صلى الله عليه وسلم شيئا، ولا أن يقول: فشفعه فىّ، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبى صلى الله عليه وسلم شفاعة ولا مـا يظن أنه شـفاعة، فلو قال بعد موتـه: (فشفعه فى) لكان كلاماً لا معنى له؛ ولهذا لم يأمر به عثمان . والدعاء المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذى أمر به ليس مأثوراً عن النبى صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا لا تثبت به شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة فى جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من /الصحابة عليه ـ وكان ما يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه ـ لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول. ولهذا نظائر كثيرة: مثل ما كان ابن عمر يدخل الماء فى عينيه فى الوضوء، ويأخذ لأذنيه ماءً جديداً، وكان أبو هريرة يغسل يديه إلى العضدين فى الوضوء، ويقول: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل، وروى عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول: هو موضع الغل. فإن هذا وإن استحبه طائفة من العلماء اتباعاً لهما فقد خالفهم فى ذلك آخرون وقالوا: سائر الصحابة لم يكونوا يتوضؤون هكذا . والوضوء الثابت عنه صلى الله عليه وسلم الذى فى الصحيحين وغيرهما من غير وجه ليس فيه أخذ ماء جديد للأذنين، ولا غسل ما زاد على المرفقين والكعبين، ولا مسح العنق، ولا قال النبى صلى الله عليه وسلم: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل. بل هذا من كلام أبى هريرة جاء مدرجًا فى بعض الأحاديث، وإنما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (إنكم تأتون يوم القيامة غراً مُحَجَّلِين من آثار الوضوء)، وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ حتى يشرع فى العضد والساق، قال أبو هريرة: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل، وظن من ظن أن غسل العضد من إطالة الغرة، وهذا لا معنى له، فإن الغرة فى الوجه لا فى اليد والرجل، وإنما فى اليد والرجل الحِجْلة، والغرة لا يمكن إطالتها، فإن الوجه / يغسل كله لا يغسل الرأس ولا غرة فى الرأس، والحجلة لا يستحب إطالتها، وإطالتها مثلة. وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبى صلى الله عليه وسلم، وينزل مواضع منزله ويتوضأ فى السفر حيث رآه يتوضأ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها، ونحو ذلك مما استحبه طائفه من العلماء ورأوه مستحبا، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبه، ولم يفعله أكابر الصحابة كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وابن مسعود ومعاذ ابن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر. ولو رأوه مستحبًا لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به. وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذى فعل، فإذا فعل فعلا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك، كمـا كان يقصـد أن يطوف حـول الكعبة، وأن يستلم الحجر الأسـود، وأن يصلى خـلف المقـام، وكان يتـحرى الصـلاة عند أسطوانة مسجد المدينة، وقصـد الصعود على الصفـا والمـروة، والدعـاء والذكـر هنـاك، وكذلك عـرفة ومزدلفـة وغيـرهما. وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده ـ مثل أن ينزل بمكان ويصلى فيه لكونه نزله لا قصدًا لتخصيصه به بالصلاة والنزول فيه ـ فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه، أو النـزول لم نكن متبعين، بل هـذا من البـدع التى / كان ينهـى عنها عمـر بن الخـطاب، كما ثـبت بالإسناد الصحيح من حـديث شـعبة عن سـليمان التيمى عن المعرور بن سـويد، قال: كان عمر بن الخطاب فى سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلى فيه النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبِيَعًا، فمن عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض. فلما كان النبى صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته فى صورة الفعل من غيره موافقة له فى قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التى هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم فى ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبى صلى الله عليه وسلم فى الصورة ومتشبه باليهود والنصارى فى القصد الذى هو عمل القلب . وهذا هو الأصل، فإن المتابعة فى السنة أبلغ من المتابعة فى صورة العمل؛ ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة: هل فعلها استحباباً أو لحاجة عارضة تنازعوا فيها، وكذلك نزوله بالمُحَصَّب عند الخروج من منى لما اشتبه: هل فعله لأنه كان أسمح لخروجه أو لكونه سنة ؟ تنازعوا فى ذلك. ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبى صلى الله عليه وسلم، وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة، فإن هذا لما لم يكن / مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته، لم يمكن أن يقال: هذا سنة مستحبة، بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد لا لأنه سنة مستحبة سنها النبى صلى الله عليه وسلم لأمته، أو يقال فى التعريف: إنه لا بأس به أحيانا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة. وهكذا يقول أئمة العلم فى هذا وأمثاله، تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة، ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين . فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع، وما سنه خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره فهو من سننه، ولا يكون فى الدين واجبا إلا ما أوجبه، ولا حرامًا إلا ما حرمه، ولا مستحبا إلا ما استحبه، ولا مكروها إلا ما كرهه، ولا مباحاً إلا ما أباحه. وهكذا فى الإباحات، كما استباح أبو طلحة أكل البرد وهو صائم، واستباح حذيفة السحور بعد ظهور الضوء المنتشر حتى قيل: هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع. وغيرهما من الصحابة لم يقل بذلك، فوجب الرد إلى الكتاب والسنة . وكذلك الكراهة والتحريم. مثل كراهة عمر وابنه للطيب قبل الطواف بالبيت، وكراهة من كره من الصحابة فسخ الحج إلى التمتع، أو التمتع مطلقًا، / أو رأى تقدير مسافة القصر بحد حده، وأنه لا يقصر بدون ذلك، أو رأى أنه ليس للمسافر أن يصوم فى السفر. ومن ذلك قول سلمان: إن الريق نجس، وقول ابن عمر: إن الكتابية لا يجوز نكاحها، وتوريث معاذ ومعاوية للمسلم من الكافر، ومنع عمر وابن مسعود للجنب أن يتيمم، وقول على وزيد وابن عمر فى المفوِّضة: إنه لا مهر لها إذا مات الزوج، وقول على وابن عباس فى المتوفى عنها الحامل: إنها تعتد أبعدَ الأجلين، وقول ابن عمر وغيره: إن المحرم إذا مات بطل إحرامه وفعل به ما يفعل بالحلال. وقول ابن عمر وغيره: لا يجوز الاشتراط فى الحج، وقول ابن عباس وغيره فى المتوفى عنها: ليس عليها لزوم المنزل، وقول عمر وابن مسعود: إن المبتوتة لها السكنى والنفقة. وأمثال ذلك مما تنازع فيه الصحابة، فإنه يجب فيه الرد إلى الله والرسول، ونظائر هذا كثيرة فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن قال من العلماء: [إن قول الصحابى حجة] وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه فقد يقال: [حجة]. / وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة بالاتفاق، وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم . وإذا كان كذلك، فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم داعيا له ولا شافعا فيه، فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعًا بعد مماته كما كان يشرع فى حياته، بل كانوا فى الاستسقاء فى حياته يتوسلون به، فلما مات لم يتوسلوا به . بل قال عمر فى دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار فى عام الرمادة المشهور، لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمنًا حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالعباس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. وهذا دعاء أقره علىه جميع الصحابة ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية . ودعا بمثله معاوية بن أبى سفيان فى خلافته لما استسقى بالناس . فلو كان توسلهم بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم به فى حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما، ونعدل عن التوسل بالنبى صلى الله عليه وسلم الذى هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل / وأعظمها عند الله ؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم فى حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته . وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبى صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بذاته، وقال له فى الدعاء: (قل: اللهم فشفعه فى) وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته ولم يأمر بالدعاء المشروع، بل ببعضه وترك سائره المتضمن للتوسل بشفاعته، كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المخالف لعمر محجوجًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحديث الذى رواه عن النبى صلى الله عليه وسلم حجة عليه لا له، والله أعلم. وأما القسم الثالث مما يسمى [توسلا] فلا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبى صلى الله عليه وسلم شيئا يحتج به أهل العلم ـ كما تقدم بسط الكلام على ذلك ـ وهو الإقسام على الله عز وجل بالأنبياء والصالحين أو السؤال بأنفسهم، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبى صلى الله عليه وسلم شيئا ثابتًا لا فى الإقسام أو السؤال به، ولا فى الإقسام أو السؤال بغيره من المخلوقين . وإن كان فى العلماء من سوغه، فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى / عنه، فتكون مسألة نزاع كما تقدم بيانه، فيرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وبيدى كل واحد حجته كما فى سائر مسائل النزاع، وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين، بل المعاقب على ذلك معتد جاهل ظالم، فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء، والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله، لا بالأنبياء ولا بغيرهم، كما سبق بسط الكلام فى تقرير ذلك . وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبى ولا لغير نبى، وأن هذا النذر شرك لا يوفى به. وكذلك الحلف بالمخلوقات لا تنعقد به اليمين، ولا كفارة فيه، حتى لو حلف بالنبى صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه كما تقدم ذكره، ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء كمالك والشافعى وأبى حنيفة وأحمد فى إحدى الروايتين، بل نهى عن الحلف بهذه اليمين. فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله؟ وأما السؤال به من غير إقسام به فهذا أيضا مما منع منه غير واحد من العلماء، والسنن الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على ذلك، فإن هذا إنما يفعله على أنه قربة وطاعة، وأنه مما يستجاب به الدعاء . وما كان من هذا النوع فإما أن يكون واجبا وإما أن يكون مستحبا،/ وكل ما كان واجبا أو مستحبًا فى العبادات والأدعية فلابد أن يشرعه النبى صلى الله عليه وسلم لأمته، فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن واجبا ولا مستحبا ولا يكون قربة وطاعة، ولا سببا لإجابة الدعاء، وقد تقدم بسط الكلام على هذا كله . فمن اعتقد ذلك فى هذا أو فى هذا فهو ضال وكانت بدعته من البدع السيئة، وقد تبين بالأحاديث الصحيحة وما استقرئ من أحوال النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن هذا لم يكن مشروعًا عندهم . وأيضا، فقد تبين أنه سؤال لله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء، وأنه كالسؤال بالكعبة والطور والكرسى والمساجد وغير ذلك من المخلوقات، ومعلوم أن سؤال الله بالمخلوقات ليس هو مشروعًا، كما أن الإقسام بها ليس مشروعًا بل هو منهى عنه . لكن قد روى فى جواز ذلك آثار وأقوال عن بعض أهل العلم، ولكن ليس فى المنقول عن النبى صلى الله عليه وسلم شىء ثابت بل كلها موضوعة . وأما النقل عمن ليس قوله حجة فبعضه ثابت وبعضه ليس بثابت، والحديث الذى رواه أحمد وابن ماجه وفيه. (بحق السائلين عليك، وبحق / ممشاى هذا) رواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (من قال إذا خرج إلى الصلاة. اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرجه أشراً ولا بطراً، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تدخلنى الجنة، وأن تغفر لى ذنوبى، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضى صلاته). وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفى عن أبى سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم، وقد روى من طريق آخر وهو ضعيف أيضًا، ولفظه لا حجة فيه، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه فى أحد أقوالهم، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك. وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه فى الغار بأعمالهم: فإنه سأله هذا ببره العظيم لوالديه، وسأله هذا بعفته العظيمة عن الفاحشة، وسأله هذا بأدائه العظيم للأمانة؛ لأن هذه الأعمال أمر الله بها، ووعد الجزاء لأصحابها، فصار هذا كما حكاه عن المؤمنين بقوله. وكان ابن مسعود يقول فى السحر. اللهم دعوتنى فأجبت، وأمرتنى فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي. وأصل هذا الباب أن يقال: الإقسام على الله بشىء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأمورًا به إيجابا أو استحبابًا، أو منهيا عنه نهى تحريم أو كراهة، أو مباحا لا مأموراً به ولا منهيا عنه . وإذا قيل. إن ذلك مأمور به أو مباح، فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق أو يقال. بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها. فمن قال. إن هذا مأمور به أو مباح فى المخلوقات جميعها، لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن، فهذا لا يقوله مسلم. فإن قال: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التى أقسم بها فى كتابه، لزم من هذا أن يسأل بـ فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته؛ لأنها آياته ومخلوقاته. فهى دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته وعظمته وعزته، فهو سبحانه يقسم بها؛ لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه . ونحن المخلوقين ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع، بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشىء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك، بل ذلك شرك منهى عنه . ومن سأل الله بها، لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح، والسحاب، والكواكب، والشمس والقمر، والليل والنهار، والتين والزيتون، وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت، والصفا والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم أن يسأله بالمخلوقات التى عبدت من دون الله، كالشمس والقمر والكواكب والملائكة والمسيح والعزير وغير ذلك مما عبد من دون الله ومما لم يعبد من دونه . ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة فى دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام . ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالأقسام والعزائم التى تكتب فى / الحروز والهياكل التى تكتبها الطرقية والمعزمون، بل ويقال. إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم والأقسام التى يقسم بها على الجن مشروعة فى دين الإسلام، وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من دين الإسلام، بل ومن دين الأنبياء أجمعين . وإن قال قائل. بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم أو نبى دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك، أو بالأنبياء والصالحين دون غيرهم. قيل له. بعض المخلوقات، وإن كان أفضل من بعض، فكلها مشتركة فى أنه لا يجعل شىء منها نداً لله تعالى، فلا يعبد ولا يتوكل عليه ولا يخشى ولا يتقى ولا يصام له ولا يسجد له ولا يرغب إليه، ولا يقسم بمخلوق، كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت)، وقال: (لا تحلفوا إلا بالله)، وفى السنن عنه أنه قال. (من حلف بغير الله فقد أشرك).
|